البلشفية طريق الثورة: الفصل الخامس: سنوات الحرب – تغير المزاج Share Tweetمع تواصل الحرب وبداية التغير في مزاج الجماهير، بدأ وضع الحزب يتغير ببطء في البداية ثم بسرعة متزايدة لاحقا. ولأول مرة بدأت الفرص في الانفتاح أمام الثوار. في بداية الحرب بدا وضع الحركة الثورية ميؤوسا منه، وخلال السنتين الأوليتين، كانت الاحتمالات أمامها ضئيلة. كان اعتقال ومحاكمة أعضاء فريق الحزب في مجلس الدوما قد قضى على أحد الإمكانيات القليلة المتبقية للنشاط الشرعي. وتلك النقابات التي نجت من الحظر وضعت تحت رقابة الشرطة الصارمة. كما تم إغلاق معظم المراكز العمالية الثقافية والتعليمية. كان العمال الذين يشاركون في الإضراب يسلمون إلى الشرطة التي كانت تحرص على إرسالهم إلى الجبهة مع رسالة تضمن أنهم لن يعودوا منها مجددا. وكان معظم المناضلين العماليين إما في السجن أو مختبئين. قوات الحزب انخفضت إلى الحد الأدنى، واضطرت الجماهير إلى التزام الصمت. وتم إصدار عدد قليل من الصحف غير الشرعية داخل روسيا، مثل صحيفة بتروجراد بروليتارسكي جولوس، التي ظهرت أربعة أعداد منها فقط، على فترات زمنية متباعدة.[Source]وفقًا لكتاب تاريخ الحزب الشيوعي[1] كانت عند البلاشفة في ذلك الوقت منظما في 29 مدينة وبلدة: بيترسبورغ وموسكو وخاركوف وييكاتيرينوسلاف وكييف ومكاييفسك وسمارة وساراتوف وريازان ونيزني نوفغورود وروستوف أون دون وأوديسا وييكاتيرينودار وباكو وتيفليس وإيفانوفو-فوزنيسينسك وتولا وأوريخوفو وزويفو وتفير وغوميل وفيازما وريفيل ونارفا ويوريفا وإيركوتسك وزلاتاوست وييكاتيرينبرج وأورينبورغ. لكن الكتاب لا يعطي أي تفاصيل عن تلك المنظمات. من الممكن أن تكون هناك مجموعات صغيرة قد وجدت في وقت أو آخر في كل تلك الأماكن وأكثر. ويشير الكتاب إلى أن البلاشفة كان لهم في أوقات مختلفة وجود في أكثر من 200 مكان مختلف. قد تكون هذه مبالغة. لكن على أي حال فقد كان وجودهم في ظل تلك الظروف الصعبة محفوفا بالمخاطر وسريع الزوال في معظم الحالات. يبدو أن الاشتراكيين الديمقراطيين اللاتيفيين، الذين كانت لديهم تقاليدهم الصارمة في التنظيم، هم وحدهم من كانوا قادرين على إصدار جريدة سرية منتظمة، بينما الجرائد الأخرى كانت، في أحسن الأحوال، تصدر بشكل غير منتظم. لقد شهدت سنوات الحرب ظهور 11 جريدة سرية، لكنها في مجموعها بلغت 17 إصدارا فقط. أما اللاتيفيون فقد أصدروا 26 عددا، باللغة اللاتيفية وبلغت مبيعاتهم رقما مثيرا للإعجاب وصل 80.000، كما أصدروا، بالإضافة إلى ذلك، جرائد باللغتين الليتوانية والإستونية. إلا أن هذا كان استثنائيا جدا.ويعطينا تقرير من مدينة تفير لمحة عن طبيعة الموقف الذي كان سائدا في معظم منظمات الحزب المحلية:«تم انتخاب لجنة المدينة في اجتماع الخريف لعمال المنظمة المحلية للحزب في عام 1915، لكنها لم تتمكن من البدء في العمل النشط إلا في مارس 1916، عندما وصلت مجموعة من عمال الحزب الجدد لمساعدة اللجنة المعطوبة. بدأت مجموعة النقاش عملها على الفور، لكنه لم يكن هناك تنسيق في العمل بسبب عدم وجود مركز قيادي. لم يتم حل اللجنة لكنها لم تكن تفعل شيئا. الإضرابات التي اندلعت في النصف الثاني من أبريل انتهت بانتصار العمال في مناسبتين. وانتهت حركة الإضراب في نهاية ماي بهزيمة المنظمة. وخلال تلك الفترة تمكنت المنظمة من إصدار ثلاثة منشورات عن الحرب، وعن لجان الصناعات الحربية، وعن يوم فاتح ماي. تم استئناف العمل في بداية يونيو. وتم تشكيل مركز جديد ووضع خطة عمل (كانت النقطة الرئيسية هي تنظيم التحريض). لقد أصبح العمل أكثر صعوبة بسبب افتقار المركز لأشخاص ذوي معارف وخبرة كبيرة».يظهر من خلال هذه السطور بوضوح أن الجهاز الحزبي في تفير لم يبدأ في العمل إلا نهاية عام 1915. وحتى ذلك الحين كان ضعيفا جدا (لم يتم تقديم أي أرقام عن عدد الأعضاء) وكان عبارة عن حلقة نقاش أكثر من أي شيء آخر. كان معظم الأعضاء يفتقرون إلى الخبرة والتكوين السياسي لإحداث تأثير كبير، وكان نفوذ اللجنة القيادية ضعيفا. وتظهر صورة مماثلة في تقرير من منطقة نيجني نوفغورود. يقدم هذا التقرير أرقاما عن عدد الأعضاء (ما بين 150 و200)، ويقول إنه كانت هناك أربع حلقات نشطة في ضواحي المدينة و 14 حلقة أخرى في المصانع، مع لجنتين مسؤولتين عن مناطق مختلفة. يبدو أن العمل هناك كان يقوم على أسس أسلم مما كان في تفير. ومع ذلك فقد كان هناك “نقص رهيب في الأدبيات”.«لم نحصل حتى الآن سوى على عدد قليل من نسخ الجريدة. صدرت المنشورات عن الحرب وعن ارتفاع تكاليف المعيشة بنسخ قليلة ومن الصعب الحصول عليها. لم نتمكن حتى من رؤية جريدة كومينست. جميع الأعمال داخل المنظمة، بما في ذلك أعمال الدعاية البحتة (توجد خلية للدعاية من ستة أعضاء) يتم تنفيذها حاليا من قِبل العمال. إن العيب الرئيسي للمنظمة هو النقص شبه الكامل في الأشخاص ذوي المعرفة النظرية والخبرة. ولا تشارك القوى الفكرية المحلية في العمل بشكل وثيق وذلك لأسباب مختلفة».[2]تشير تقارير لجنة كازان إلى مظاهرة للطلاب ضد الحرب، لكنها لا تقول شيئا عن حجم المشاركة فيها. ومن ناحية أخرى ادعت منظمة خاركوف أن “حوالي 120 عضوا” يدفعون المستحقات المالية بانتظام. لكن هذا كان في لاتفيا حيث كانت درجة التنظيم أعلى بكثير من أي مكان آخر، كما سبق لنا أن أشرنا. بل لقد نجحت منظمة خاركوف في طبع جريدتها الأسبوعية (غولوس سوتسيال ديموكراتا) بواسطة الهكتوغراف. كان الجهاز المركزي للمنظمة ضعيفا إلى أقصى الحدود، وكان “مقر” اللجنة المركزية في بتروغراد هو شقة لزوجين، حيث كانت الزوجة هي المسؤولة عن “حماية الصحيفة” والأرشيف الصغير. كانت هناك العديد من نقاط الالتقاء في المدينة حيث يمكن للرفاق الحصول على الصحافة الحزبية، وهو العمل الذي يكتسي خطورة بالغة إذ كان المكان يعج بعملاء الشرطة والجواسيس. كان فاديم (تيخوميروف) مسؤولا عن الشحن السري لأدبيات الحزب من فنلندا إلى المقاطعات، وكذلك تخزينه وتوزيعه في بتروغراد. ولهذا قام بتنظيم مجموعة من الشابات اللواتي يسافرن إلى فنلندا ويسلمن تلك المواد الخطيرة إلى عناوين معينة.صحيح أن مزاج اللامبالاة والتشاؤم كان قد بدأ يتبدد تدريجيا. وبدأ عدد متزايد من العمال، الذين كانوا قبل الحرب أعضاء في الحزب، في العودة إليه مجددا. لكن المشاكل استمرت كثيرة. كانت أقوى المنظمات هي منظمة سان بيترسبورغ. عانت منظمة موسكو طوال الحرب من غياب مركز قيادي حقيقي ولم تتعاف إلا عام 1917 مع تدفق عدد من الرفاق الشباب الجدد. كما عانت موسكو كثيرا من أنشطة المخبرين المندسين. وكانت المشكلة الخطيرة هي الافتقار إلى الأموال، وهو ما منع الجهاز المركزي البلشفي في بيترسبورغ من دعم منظمات المقاطعات. كانت الزيارات العرضية هي كل ما يمكن القيام به. ويتذكر شليابنيكوف ببعض المرارة كيف كان الرفاق السابقون، الذين كانت لديهم وظائف بأجور جيدة، يترددون في التبرع للحزب السري، رغم أن العديد منهم انضموا إليه لاحقا. يمكننا أن نتفهم تلك النبرة المريرة إذا أخذنا في الاعتبار المخاطر والمصاعب التي كان المناضلون يقاسونها في العمل السري كل يوم:«كان علينا أن نعمل في ظل ظروف صعبة للغاية. لقد أثبتنا قدرتنا على تجميع العديد من الرفاق النشيطين من حولنا. لكننا، وبسبب نقص الموارد، لم ننجح في توسيع نطاق العمل على نطاق أكبر. لقد كنا فقراء جدا. ومن 02 دجنبر 1916 إلى 01 فبراير 1917، لم يدخل إلى صندوق اللجنة المركزية سوى 1117 روبل فقط و50 كوبيكا. كان علينا أن ننجز جميع الأعمال بهذه الإمكانيات. وإذا أرسلنا منظما إلى المحافظات، لم يكن يمكننا أن نضمن دعمه حتى ولو لشهر واحد؛ وبالتالي كان علينا الاعتماد على الزيارات العابرة من قبل الرفاق لمختلف المناطق أو على ضربات الحظ. أنفق المكتب القليل من المال لدعم موظفيه. كان الأغلبية يحصلون على أجورهم لكن المشتغلين في السرية لم يكونوا يحصلون حتى فبراير 1917 على أكثر من 100 روبل في الشهر. كان توفير الأدبيات يتطلب الكثير من الأموال، لكننا لم نتمكن من تخصيص الكثير لها.لم تكن ظروف البقاء الشخصي أقل صعوبة. فمنذ الأيام الأولى لوصولي، عندما أصبحت هدفا لأعين الجواسيس، كان من الواضح لي أن الاستقرار في شقتي الخاصة، والحصول على جواز سفر ساري المفعول، وغير ذلك من أشكال الرفاهية، كان في مثل حالتي تلك، بمثابة وصفة لكارثة حقيقية. لكي أتمكن من مراوغة المخبرين كان علي التوفر على أكبر عدد ممكن من المنازل. لقد ساعدني الرفاق في العثور على أماكن، وكان علي أن أغير مكاني في كل ليلة. كانت تلك المنازل مشتتة في أجزاء مختلفة من بيترسبورغ، بما في ذلك أطرافها؛ كان هناك على سبيل المثال منزل في غرازدانكا وآخر في غالي هاربور، وكذلك آخر بينهما في وسط المدينة. كانت حياتي قد تحولت إلى تجوال دائم. كان من الصعب علي الكتابة والقراءة، بل وفي بعض الأحيان كان من الصعب علي حتى أن أفكر عندما كان بعض الرفاق المضيافين يشاركونني، في كثير من الأحيان، في نقاش برامجهم السياسية ومحادثاتهم الممتعة في أعماق الليل. يمكنك أن تستمر في القيام بهذا لمدة شهرين أو ثلاثة، لكن طاقتي البدنية لم تسمح لي بأكثر من ذلك».[3]إلا أن النهوض الذي كانت الحركة العمالية قد بدأت تعرفه كان بمثابة محفز لاستعادة البلاشفة لنشاطهم. وقد ظهرت أولى علامات التعافي في المقاطعات. ففي فبراير ومارس 1916، ظهرت في حوض دونتس، وهي منطقة رئيسية لإنتاج الفحم، منشورات تدعو العمال إلى تنظيم صفوفهم وترفع شعارات البلاشفة. وفي أوائل شهر أبريل، اندلع أول إضراب في زمن الحرب في حقل دونتس للفحم، والذي شارك فيه حوالي 50.000 عامل. انطلقت الإشارة إلى الإضراب من المنجم الذي ظهرت فيه المنشورات البلشفية. وقد تم انتخاب لجنة إضراب في منجم واحد على الأقل. فقامت السلطات بإرسال كتيبتين من الجنود إلى حقل الفحم، لكن الجنود رفضوا قمع المضربين، بل حتى الشرطة أبدت ترددها في التحرك. محاولة الإدارة لتحويل الإضراب إلى مسارات معادية للسامية تم رفضها بشدة من قبل العمال. وفي الأخير تمكنت السلطات من “استعادة النظام”، لكن فقط بعد مقتل أربعة عمال وجرح 20 آخرين. انهزم الإضراب لكن مزاج العمال تغير. وقد انعكس هذا الواقع في نمو التنظيم الثوري:«بالتزامن مع موجة الإضراب بدأت تتشكل مجموعات سياسية قوية، واكتسبت الخلايا العمالية بسرعة قوة كما لو أن العمال يريدون تعويض الوقت الثمين الضائع. بدأوا في البحث عن روابط بين بعضهم البعض. وكان ذلك قد صار سهلا آنذاك. خلال الإضرابات أصبحت كل تلك المجموعات والخلايا تعرف بعضها البعض. وفي تلك اللحظة اتحدوا جميعا لتشكيل المنظمات الاشتراكية الديمقراطية في حوض دونتس، والتي كانت قوانينها وبرامجها مستمدة من الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي».وهكذا بدأ البلاشفة، شيئا فشيئا، يعيدون تنظيم صفوفهم ويحققون النمو:«على الرغم من تصاعد القمع والاعتقالات الجماعية وفقدان عمال الحزب، تطورت منظمتنا السرية وتعززت قواها. كانت أقوى منظمة غير شرعية في بيترسبورغ هي لجنة بيترسبورغ التابعة لحزبنا والتي ضمت حوالي 3 آلاف عضو، ويمكن اعتبار غالبية عمال بيترسبورغ متعاطفين مع سياستنا المناهضة للحرب. ومن بين المنظمات الشرعية لحزبنا لم تتبق سوى لجنة التأمين العمالي، والتي كانت تشكل أيضا المركز الروسي لصناديق المستشفيات وجريدته فوبروسي ستراخوفانيا. كان قد تم منع نشاط هذه المؤسسات وصار العديد من أعضاء مجموعة التأمين في السجن أو المنفى».[4]وعلى الرغم من أوجه القصور المزمنة التي كان يعاني منها الجهاز، فإنه من نهاية يوليوز 1916 إلى 01 مارس 1917، أنتجت المنظمات البلشفية المحلية أكثر من 600 منشور مختلف بإجمالي نسخ بلغ حوالي مليوني نسخة طبعت في حوالي 80 بلدة ومدينة مختلفة، مما ساهم في تعويد جماهير العمال والجنود على الشعارات البلشفية. وعلى الرغم من الطبيعة غير المنتظمة وغير المستقرة لهذه المنشورات السرية، فإنها لعبت دورا مهما في ظرفية كان من غير الممكن عمليا خلالها نشر الأفكار الاشتراكية الديمقراطية بطريقة شرعية. كان لا بد من استخدام كل ثغرة قانونية، على الرغم من أنها كانت محدودة للغاية. كانت النقابات العمالية في بتروغراد قد أغلقت، على الرغم من السماح لبعض “الجمعيات المهنية” بالوجود. في موسكو كانت النقابات مسموحا بها من الناحية النظرية، لكنه كان في الإمكان تعرض العمال الذين يشاركون فيها للعقاب بموجب القانون. وفي ظل تلك الظروف كانت الثغرات مثل مجموعات التأمين الصحي وما شابهها تكتسي أهمية كبرى. وقد استخدمها الثوار بأفضل ما في وسعهم للحفاظ على العلاقات مع الجماهير، بما في ذلك الفئات الجديدة من النساء والشباب.هوامش:1: Istoriya KPSS, vol. 2, p. 547.2: A. Shlyapnikov, On the Eve of 1917, pp. 181-82.3: Ibid., p. 141.4: Ibid., p. 163 and p. 164.