البلشفية طريق الثورة: الفصل السادس: سنة الثورة – لينين يغير رأيه Share Tweetكان لينين وهو في مكان اختباءه في قرية رازيليف الصغيرة على خليج فنلندا، على بعد حوالي 30 كيلومترا إلى الشمال الغربي من العاصمة، يتتبع الأحداث بمزاج كئيب. لقد تركت أحداث يوليوز وما أعقبها انطباعا قويا عليه. وسيكون من المفيد لأولئك الذين يتخيلون أن الثورة الروسية، عام 1917، قد اتبعت مسارا تصاعديا نحو النصر تحت القيادة المطلقة لرجل لم يكن يخامره أي شك في نجاحه، أن يدرسوا تطور فكره في ذلك الوقت. لم يكن ذلك معروفا بشكل عام، لكن لينين في البداية كان يميل إلى المبالغة في تقدير قوة الثورة المضادة واستخلص استنتاجات متشائمة. أشار ألكسندر رابينوفيتش في كتابه المهم عن الثورة البلشفية، الذي كتبه بالاعتماد على مذكرات كل من شوتمان وزينوفييف، إلى ما يلي:[Source]«يتذكر شوتمان أن لينين قد بالغ لفترة من الزمن في تقدير مدى قوة وتأثير الردة الرجعية وكان متشائما بشأن الآفاق المباشرة للثورة في روسيا. لقد اعتبر أنه لم تعد هناك فائدة من الحديث عن الجمعية التأسيسية لأن “المنتصرين” لن يعقدوها؛ وبالتالي يجب على الحزب أن ينظم القوى التي ما زال يمتلكها ويستعد للعمل السري “على محمل الجد ولفترة طويلة”. وقد عززت التقارير الكئيبة التي نقلها شوتمان في البداية إلى لينين في رازليف من هذه القناعات. مرت عدة أسابيع قبل أن تبدأ الأخبار في التحسن.وقد أكد زينوفييف تشاؤم لينين في أعقاب أيام يوليوز، حيث كتب في أواخر العشرينات أن لينين في ذلك الوقت افترض بداية فترة ردة رجعية أطول وأعمق مما حدث بالفعل»[1].وقالت ماريا سوليموفا، وهي عاملة بلشفية استقر عندها لينين يوم 06 يوليوز، إنها عندما أبلغته آخر الأخبار، رد قائلا: «أنت، أيتها الرفيقة سوليموفا، قد يعتقلونك، أما أنا فسيشنقونني». والدليل على أن تلك الفكرة كانت تخامره هو الرسالة التي بعثها لكامينيف حيث كتب: «Entre nous [بينك وبينك]: إذا اعتقلوني، أطلب منك أن تنشر دفتر ملاحظاتي “الماركسية والدولة”.»[2]دفتر الملاحظات المشار إليه هنا هو كتابه الشهير “الدولة والثورة”، الذي هو أحد أهم الأعمال النظرية الماركسية وأكثرها تأثيرا، والذي كتبه في ذلك الوقت. ظل لينين على اتصال وثيق بالعاصمة من خلال الرسائل، وكتب العديد من المقالات والبيانات، ونقّب في الصحف بحثا عن الأخبار. لكن ذلك لم يكن كافيا لإبقائه على اتصال بنبض الحركة في ذلك الموقف الذي كان يتغير بسرعة كل يوم، وأحيانا كل ساعة. وقد دفعه الانطباع العميق الذي تركته أحداث يوليوز عليه إلى الدعوة إلى تغيير التكتيكات، مما أدى إلى اندلاع جدال حاد آخر داخل الحزب.توصل لينين، على أساس أيام يوليوز، إلى استنتاج مفاده أن المسار السلمي للثورة صار مستحيلا الآن، وأن الحرب الأهلية أصبحت حتمية، وأنه كان من الضروري على الحزب أن يضع الانتفاضة على رأس جدول الأعمال على الفور. كتب يقول: «كل الآمال في التطور السلمي للثورة الروسية قد اختفت إلى الأبد». وخلص إلى أن هزيمة يوليوز قد أدت إلى تصفية نظام ازدواجية السلطة. كانت السوفييتات، تحت قيادة الجناح اليميني، قد انتقلت في الواقع إلى جانب الثورة المضادة. ولذلك صار من المستبعد تحويلها واستخدامها لحسم السلطة. وهو ما يعني أن المنظور السابق للتحول السلمي لم يعد ممكنا. لذلك دعا إلى التخلي عن شعار: “كل السلطة للسوفييتات”، وقال إنه على الحزب بدلا من ذلك أن يركز كل جهوده على الإعداد للانتفاضة، بالاستناد إلى لجان المصانع، كتب قائلا:«لقد كان شعار “كل السلطة للسوفييتات!” شعارا من أجل التطور السلمي للثورة، وكان ذلك ممكنا في أبريل وماي ويونيو وحتى 05 – 09 يوليوز، أي حتى ذلك الوقت الذي انتقلت فيه السلطة الفعلية إلى أيدي الديكتاتورية العسكرية. لم يعد هذا الشعار صحيحا، لأنه لا يأخذ في الاعتبار أن السلطة قد انتقلت من يد إلى يد أخرى وأن الثورة قد تعرضت في الواقع للخيانة التامة من طرف الاشتراكيين الثوريين والمناشفة. ولن تساعد الإجراءات المغامراتية ولا التمردات ولا المقاومة الجزئية ولا المحاولات اليائسة لمواجهة الردة الرجعية»[3].اتضح لاحقا أن هذا التقييم كان سابقا لأوانه، وقد قام لينين بتصحيحه بعد ذلك. لكن من الممكن تفهمه في ظل الظروف التي كانت سائدة في ذلك الوقت. إن ما كان يميز لينين هو التفكير في المرحلة التالية، والتنبؤ بحتمية الانتفاضة في ذلك الوقت بالضبط الذي بدا فيه كما لو أن الثورة المضادة قد انتصرت بشكل كامل. لقد رأى أن موجة الثورة المضادة سوف تنحسر في النهاية، وأنه على البلاشفة أن يضعوا على كاهلهم مهمة الاستيلاء على السلطة. وقد تبين أن هذا صحيح، لكن بمعنى آخر، إذ كان لينين متشائما للغاية. لم يكن انتصار الجناح اليميني داخل السوفييتات حاسما كما كان لينين يعتقد، بل وعلى العكس من ذلك كان من شأن الاستقطاب والتجذر المتناميين داخل المجتمع أن يعبرا عن نفسيهما حتما داخل السوفييتات باعتبارها المنظمات الجماهيرية الرئيسية للطبقة العاملة.بالطبع ليست السوفييتات حلا سحريا في حد ذاتها. صحيح أنها مناسبة جدا للتعبير عن تطلعات ومزاج الجماهير بسبب شكلها الديمقراطي والمرن للغاية. لكن في خضم الثورة، حين تتغير أمزجة الجماهير بسرعة البرق، تتخلف حتى تلك المنظمات عن الركب، وتصير انعكاسا للوضع الذي كان بالأمس، وليس اليوم. كان لينين قد حذر منذ بداية أبريل من خطأ النظرة الصنمية للسوفييتات. ففي كونفرانس أبريل قال: «إن السوفييتات مهمة لنا ليس كهيكل؛ المهم بالنسبة لنا هو ما هي الطبقات التي تمثلها». لم تكن المسألة متعلقة بالمشاركة في “برلمانية سوفياتية”، والمناورة مع القادة في القمة، بل إيجاد طريق نحو العمال الذين كانوا يتطلعون إلى السوفييتات.بعد يوليوز تغير ميزان القوى الطبقي بشكل كبير. القادة الإصلاحيون لم يفهموا شيئا. كانوا يشبهون شخصا يقطع الغصن الذي يجلس عليه. ومع كل ضربة كانت توجه ضد البلاشفة، كانت ثقة اليمين تزداد وعدوانيته تشتد. لم يكن ذلك موجها ضد البلاشفة فقط بل ضد السوفييتات نفسها. لم يقتصر المناشفة والاشتراكيون الثوريون على رفض تولي السلطة، بل إنهم من خلال تصرفاتهم، كانوا يشجعون الثورة المضادة، وكانوا، كما قال لينين، يجعلون من اندلاع العنف والحرب الأهلية مستقبلا حتميا. وبهذا المعنى فقد كانت تلك سوفييتات معادية للثورة، حيث كانت القيادة الإصلاحية اليمينية، التي تستند إلى السوفييتات، تساعد بنشاط البرجوازية على استعادة سيطرتها على الدولة.وفي وقت لاحق كتب لينين قائلا:«كل تجربة الثورتين، تجربة عام 1905 وعام 1917، وجميع قرارات الحزب البلشفي، وجميع تصريحاته السياسية طيلة سنوات عديدة، يمكن أن تختزل في أن سوفييتات نواب العمال والجنود ليست كذلك في الواقع إلا باعتبارها جهازا للانتفاضة، جهازا للسلطة الثورية. لكن بخلاف ذلك ليست السوفييتات سوى لعبة لا معنى لها يمكنها أن تؤدي فقط إلى اللامبالاة والسلبية وخيبة الأمل بين الجماهير، التي تشعر بالاشمئزاز المشروع من التكرار اللامتناهي للقرارات والاحتجاجات»[4].وعلى الرغم من كل شيء تمكن البلاشفة من التعافي بسرعة إلى حد ما من آثار هزيمة يوليوز. اتضح أن انتصار الثورة المضادة أكثر ضحالة وأقل وزنا مما افترض لينين. من المثير للدهشة أن القليل فقط من الأعضاء غادروا الحزب بعد يوليوز، على الرغم من حقيقة أن البلاشفة مروا بوقت عصيب، وذلك حتى في بعض المصانع التي تأثر فيها العمال المتخلفون بوابل الدعاية المعادية للبلاشفة. وفي غضون أسابيع قليلة، بدأ الحزب يستعيد نفوذه ونموه. كانت الأسباب متجذرة في الظروف الموضوعية. فالحكومة المؤقتة، وعلى الرغم من نجاحها المؤقت، لم تحظ سياساتها بالشعبية مطلقا. كانت الأخبار القادمة من الجبهة تتحول من سيء إلى أسوأ. ديماغوجية كيرنسكي “الوطنية” لم تنفعه مع الجنود الذين كان كل ما يريدونه هو تسريحهم والعودة إلى المنزل. وقد أدت محاولات استعادة الانضباط في ظل تلك الظروف إلى جعل الأمور أسوأ. ولاحظ الجنود بقلق متزايد عودة ظهور العناصر المعادية للثورة بين صفوف الضباط. كان الضباط الموالون للقيصر قد طأطأوا رؤوسهم منذ فبراير، لكنهم بدأوا الآن في إعادة تجميع صفوفهم وفرض أنفسهم بثقة أكبر.وعلى عكس توقع لينين بدأت السوفييتات تصير أكثر تقبلا للدعاية البلشفية. هذا على الرغم من أنه وحتى غشت كان السوفييتان الوحيدان في بتروغراد اللذان كان البلاشفة يتمتعون فيهما بنفوذ قوي هما سوفييت كولبينسكي وسوفييت منطقة فيبورغ التي كانت معقل الحركة العمالية، بينما كانت جميع السوفييتات المحلية الأخرى في العاصمة تؤيد المناشفة والاشتراكيين الثوريين. كانت بعض تلك السوفييتات قد تبنت موقفا عدائيا ضد البلشفية بعد أيام يوليوز، حيث أصدرت قرارات تدين “منظمي المظاهرة”. لكن المزاج بدأ يتغير، وأصبح العمال المناشفة والاشتراكيون الثوريون أكثر انتقادا تجاه قادتهم.انطلقت آنذاك سيرورة متناقضة: حيث كان القادة الإصلاحيون داخل اللجنة التنفيذية لسوفييت عموم روسيا يتعهدون بالدعم غير المشروط لكيرنسكي، بينما كان شك السوفييتات المحلية في الحكومة يتزايد سريعا بمرور الوقت. تجلى ذلك في النمو المستمر للتيار اليساري الذي كان يمثله المناشفة الأمميون (مارتوف)، ولجنة ما بين الجهات (ميزرايونتسي) والبلاشفة. وبحلول منتصف الصيف، صارت القرارات البلشفية تصدر بالإضافة إلى فيبورغ وكولبنسكي، في جزيرة فاسيليفسكي وكولومنسكي والمقاطعة الأولى للمدينة. فعلى الرغم من أن تلك السوفييتات كانت ما تزال رسميا تحت سيطرة المناشفة والاشتراكيين الثوريين، فإن العمال كانوا أكثر ميلا للاستماع إلى أفكار الأشخاص الوحيدين الذين كانوا يعبرون بشكل صحيح عما يدور في أذهانهم، أي البلاشفة. ويشير ألكساندر رابينوفيتش إلى أنه:«مع ذلك فباستثناء سوفييت منطقة فيبورغ ربما، يبدو أن أيا من تلك السوفييتات لم يكن تحت السيطرة الفعلية للبلاشفة. حيث احتفظ المناشفة والاشتراكيون الثوريون، أو بالأصح المناشفة الأمميون ويسار الاشتراكيين الثوريين، بنفوذهم في معظم سوفييتات المقاطعات حتى أواخر خريف عام 1917»[5].[1] A. Rabinowitch, Bolsheviks Come to Power, p. 37.[2] LCW, Note to L.B. Kamenev, vol. 36, p. 454.[3] LCW, The Political Situation, vol. 25, pp. 177-78.[4] LCW, Theses for a Report at the 8 October Conference of the Petrograd Organisation, vol. 26, p. 143.[5] A. Rabinowitch, Bolsheviks Come to Power, p. 77.