مغامرة السيد فولوديمير زيلينسكي المذهلة في كورسك

“إنها حكاية،

يحكيها أحمق، مليئة بالضجيج والغضب،

لكنها بلا معنى”.

[Source]

مع ارتفاع صوت طبول الحرب يوما بعد يوم، ودخول آلة الدعاية البالية في حالة من النشاط المفرط الهستيري، يبدأ المرء في فقدان ارتباطه بالواقع. كل يوم، وبرتابة مملة، تصرخ عناوين الأخبار فينا من كل جهة يمكن تصورها، وبعضها من جهات لا يمكن تصورها.

كم نحن محظوظون نحن الذين نعيش في الغرب “المحب للحرية”، لأننا لدينا الفرصة لمشاركة وجهات نظر مختلفة حول الحب والحياة وحتى السياسة! فقط فكروا في هؤلاء المساكين الذي يعيشون في روسيا، والذين لم يسمعوا سوى جانب واحد من القصة: الجانب الذي يناسب مصالح الحكومة والنخبة الحاكمة!

يتعين على هؤلاء التعساء أن يصدقوا جميع الأخبار المشوهة التي تُعرض عليهم يوميا. بينما نحن، على العكس من ذلك، لدينا مجموعة واسعة من المنافذ الإخبارية، التي تتمتع بحرية نشر أي رأي تريده، حول أي موضوع مهما كان.

لكن ومن قبيل المصادفة الغريبة، فقد اختارت صحافتنا الحرة (باختيارها الحر، بدون أي شك) أن تنشر نفس القصة بالضبط عن الحرب في أوكرانيا. والمصادفة الأكثر إثارة للدهشة هي أن هذه القصة تتطابق دائما بشكل وثيق مع وجهات النظر الرسمية لحلف شمال الأطلسي، وواشنطن، وبطبيعة الحال، النظام في كييف.

ولهذا، فإننا نحن المواطنين المحظوظين في الغرب الديمقراطي، أحرار في الاختيار بين وجهة نظر واحدة ونفس الرأي، المعبر عنهما بانتظام ميكانيكي حول نفس الموضوع والذين يتم ترديدهما مرارا وتكرارا.

في صباح يوم أمس، 15 غشت 2024، لم تضيع صحيفة نيويورك تايمز وقتا لإخبارنا بكيفية قيام القوات الأوكرانية بغزو روسيا.

لقد تم إمدادنا بسر كيف شنت أوكرانيا، يوم 06 غشت، “هجوما عسكريا جريئا -وسريا للغاية- بهدف قلب مسار حرب بدت لأشهر وكأنها تخسرها”.

وهكذا تنطلق حملة التضليل المنهجي من بداية رائعة منذ الجملة الأولى. فبالنسبة لأي شخص مطلع ولو عن بعد على حقائق الحرب في أوكرانيا، من المؤكد أنه ليس سرا أن أوكرانيا لم تكن على الإطلاق تبدو “وكأنها تخسرها”، بل إنها تخسر على طول الجبهة، وتخسر ​​بشكل سيء للغاية.

في الواقع لم يكن سرا، بالنسبة لأي مراقب مطلع إلى حد ما، أن الحرب، من وجهة نظر نظام كييف، هي حرب خاسرة بالفعل، ولا يمكن كسبها. لكن الآن، فإنه وفقا لصحيفة نيويورك تايمز، إلى جانب شبكة سي إن إن، وصحيفة واشنطن بوست، وهيئة الإذاعة البريطانية، وآي تي ​​في، وقناة الأخبار الرابعة، والغارديان، والتلغراف، والفاينانشال تايمز، ولوموند، وإل بايس، وبيلد، والعديد من المنافذ الإخبارية الشهيرة الأخرى، قد انقلب كل شيء فجأة رأسا على عقب.

فجأة، لم تعد أوكرانيا تخسر الحرب مع روسيا، بل على العكس من ذلك، صارت تفوز بها. ويتم تصوير قواتها في عدد لا يحصى من قنوات البث التلفزيوني، وهي تتقدم في عمق الأراضي الروسية، دون أي معارضة كبيرة على ما يبدو.

يظهر هؤلاء الجنود وهم يضحكون ويبتسمون، وكأنهم في نزهة. يحتلون قرى لا حصر لها على الجانب الروسي من الحدود، ويستمتعون بتمزيق الأعلام الروسية ورفع الأعلام الأوكرانية في مكانها.

كل هذا أمر مبهج للغاية، ومفيد جدا لرفع الروح المعنوية.

إن الرسالة القادمة من كييف تصل بصوت عال وواضح في كل مقابلة تلفزيونية مع رجال ونساء منتصرين على الجانب الأوكراني، مفادها: الآن سوف نعلمهم درسا!

وقد تحدث أندرو إي كرامر، رئيس مكتب صحيفة نيويورك تايمز في كييف، إلى أوكرانيين يعيشون في القرى القريبة من الحدود مع روسيا. وقال: “كانت إحدى النساء الأوكرانيات اللواتي تم إجلاؤهن من قرية حدودية تقول إن الوقت قد حان الآن لكي يشعر الروس بما تعنيه الحرب”.

وفي الوقت نفسه، يتم تصوير المشهد في الكرملين بألوان قاتمة. حيث يبدو أن الروس البائسين غير قادرين على الرد على هذه الرمية الجريئة للنرد.

يقال إنهم مشلولون، مثل أرنب مسكين أغشت عيونه أضواء المصابيح الأمامية لمركبة قادمة في اتجاهه.

إن الصحفيين الغربيين، ومن يسمون أنفسهم “المحللين” الحاضرين على الدوام، مشغولون بدراسة كل صورة أو مقطع فيديو للرجل الساكن في الكرملين، على أمل أن يروا في أدنى حركة لعضلات وجهه أية مؤشرات على حالته النفسية.

ولأنهم غير قادرين على التوصل إلى فرضية عقلانية على أساس الحقائق، فإنهم مضطرون إلى اللجوء إلى فنون التكهن الغامضة، على أمل اكتشاف الحقيقة بنفس الطريقة التي كان العرافون القدماء يقضون بها حياتهم في فحص أحشاء الدجاج الميت.

ومن المؤسف أن جهود صحفيي التحقيقات في أيامنا هذه تسفر تقريبا عن نفس النتائج التي توصل إليها أولئك الكهنة الموقرون من القدماء. لكن الواقع هو أن دراسة هيئة أحشاء الدجاج قد تكون أكثر فائدة من محاولة اكتشاف ما يدور في ذهن فلاديمير بوتن من خلال دراسة ملامح وجهه.

أيا كان موقف المرء بشأن الرجل الساكن في الكرملين، فإنه بارع في إخفاء مشاعره العميقة، ويستطيع أن يحافظ على نفس التعبير الجامد الذي قد يتوقع المرء أن يراه عند لاعب بوكر متمرس.

وكما قال شكسبير ذات مرة:

“لا يوجد فن

لإيجاد بنية العقل في الوجه”[2].

ومع ذلك فإن الحرب النفسية تحتل دورا مركزيا في الحروب بشكل عام، وقد لعبت دورا حاسما بشكل خاص في الحرب الحالية.

تتفاخر مقالة نيويورك تايمز بأن القوات الأوكرانية:

“قد توغلت سبعة أميال داخل روسيا على طول جبهة طولها 25 ميلا وأسرت العشرات من الجنود الروس، كما يقول المحللون والمسؤولون الروس. وقال حاكم منطقة كورسك الروسية يوم الاثنين إن أوكرانيا تسيطر على 28 بلدة وقرية هناك. وقال المسؤولون الروس إن أكثر من 132 ألف شخص تم إجلاؤهم من المناطق المجاورة”.

لا تفقد القصة أي شيء أثناء سردها. فالعشرات من الجنود الروس الذين تم أسرهم وفقا لصحيفة التايمز، يتم تضخيمهم على الفور من قبل زيلينسكي المبتهج ليصيروا مائة بالضبط. وفي اليوم التالي، أبلغنا مكتبه أن الرقم يصل إلى “المئات”.

كم من المئات؟ مئتان، أم تسعمائة، أم ألف؟ لا أحد يعلم. ومن الأفضل ترك الرقم الدقيق للخيال، لأن الخيال هنا يلعب دورا مهما للغاية.

ما الذي تم تحقيقه؟

من الواضح أن التأثير الأولي للتوغل داخل الحدود الروسية كان بلا شك نجاحا أوكرانيا. لكن ما الذي يعنيه هذا النجاح في الواقع؟ إن الإجابة على هذا السؤال تظل لغزا.

ما الذي تم تحقيقه بالفعل من هذا الهجوم؟ تتفق جميع وسائل الإعلام على أن القوات الأوكرانية قد “توغلت عميقا في الأراضي الروسية”. لكن إلى أي حد وصل ذلك التوغل العميق؟

قالت صحيفة التايمز إن: “أوكرانيا توغلت سبعة أميال داخل روسيا على جبهة طولها 25 ميلا”. ويبدو أن هذا الرقم، الذي تم أخذه من مصادر روسية، صحيح، وإن كان يبدو أيضا أن الأوكرانيين قد بدأوا الآن ينتشرون في اتجاهات مختلفة، دون أي فكرة واضحة عن الغرض من ذلك، بخلاف أعمال التخريب المتفرقة.

روسيا، كما نعلم، بلد كبير للغاية بالفعل. نحن نتحدث عن آلاف الكيلومترات. ولذلك فإنه لا يمكن، بأي شكل من الأشكال، اعتبار التوغل لمسافة سبعة أميال، على جبهة طولها 25 ميلا، توغلا كبيرا في الأراضي الروسية.

يزعم الأوكرانيون أنهم احتلوا عددا من القرى، على الرغم من أن الصور التي نشروها قد تم التلاعب بها بوضوح لتزوير الموقف، على الأقل في بعض الحالات. وعلى أية حال، فإن القرى المذكورة صغيرة للغاية، وكان قد تم إخلاء معظمها.

وبصرف النظر عن القيمة الدعائية المؤقتة، فإن الأهمية العسكرية الفعلية لهذه المكاسب هي صفر على وجه التحديد. ولن يكون لها أي تأثير على الحرب الرئيسية التي تدور في أوكرانيا، وخاصة في المنطقة الرئيسية في دونباس.

ما الهدف من تعبئة موارد قيمة، ضرورية لأغراض دفاعية على طول خط المواجهة، من أجل احتلال بضع قرى صغيرة على الجانب الروسي من الحدود؟

وحتى لو قبلنا الادعاءات الأكثر طموحا من الجانب الأوكراني، فمن الواضح تماما أن الاستيلاء على تلك القرى لن يدوم طويلا. القوات الروسية تتعبأ بالفعل لشن هجوم مضاد سيؤدي إلى طرد القوات الأوكرانية مع تكبيدها خسائر فادحة في الأرواح والمعدات.

إذن ماذا كان الهدف من ذلك؟

إن هجوما مهما، يشمل عدة ألوية من الجيش الأوكراني، فضلا عن الألوية المستمدة إلى حد كبير من احتياطيات أوكرانيا المحدودة للغاية والتي تضم العديد من قواتها الأكثر فعالية ونخبوية، كان لابد أن تكون له أهداف محددة بوضوح.

لكن وحتى يومنا هذا، لم يقدم أي شخص في كييف أي تفسير واضح لتلك الأهداف. سوف يتضح لنا سبب هذا الصمت الغامض في وقت لاحق. في حين يبقى الأمر مجرد تكهنات في وسائل الإعلام الغربية.

التفسير الوحيد المعقول الذي تم تقديمه حتى الآن هو أن هجوم كورسك كان يهدف إلى إجبار الروس على سحب قواتهم من الجبهة المركزية في دونباس، وبالتالي تخفيف الضغط على الدفاعات الأوكرانية، التي أصبحت مستنزفة بشدة وتنهار بسرعة.

إذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن الخطة فشلت بوضوح في تحقيق هدفها. فبصرف النظر عن عدد صغير من المقاتلين الشيشان الذين تم إرسالهم إلى كورسك، يبدو أن القوات الروسية التي تم سحبها من دونباس كانت ضئيلة.

بل لقد ظهرت بالفعل مقالات في وسائل الإعلام الأوكرانية تشكو فيها القوات التي تحاول مقاومة التقدم الروسي العنيد في أماكن مثل بوكروفسك، بصوت عالٍ من أن انسحاب القوات الأوكرانية أضعفها لدرجة أنها على وشك الانهيار.

وقد اعترف المتحدث باسم الحرس الوطني الأوكراني، رسلان موزيتشوك، يوم الخميس، بأن هجوم كييف في منطقة كورسك الروسية لم يبطئ تقدم موسكو.

وقال موزيتشوك لمحطة إذاعية محلية: “كما يتضح من التقارير الرسمية الصادرة عن هيئة الأركان العامة والروايات القادمة من الوحدات والمقاتلين على خط المواجهة، فإن وتيرة الهجوم الروسي وكثافة الهجمات لا تتناقص”.

قال إيفان سيكاش، المتحدث باسم اللواء الآلي رقم 110 في أوكرانيا، والذي يتم نشره حاليا في منطقة بوكروفسك في منطقة دونيتسك، إنه منذ أن شنت أوكرانيا هجوم كورسك، “أود أن أقول إن الأمور أصبحت أسوأ في جزءنا من الجبهة”. وقال لصحيفة بوليتيكو: “لقد حصلنا على ذخيرة أقل من ذي قبل والروس يضغطون”.

ووفقا لـDeepState، وهو مشروع لرسم خرائط الحرب مقرب من وزارة الدفاع الأوكرانية، فقد احتلت روسيا على مدار الـ 24 ساعة الماضية، قريتي زيلاني وأورليفكا وحققت تقدما في نيويورك (كذا!) وكراسنوهوريفكا وميكولايفكا وزورافكا في دونيتسك.

لم تؤكد هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الأوكرانية أو تنفي هذه التقرير، واكتفت بالقول إن قتالا عنيفا يجريٍ في تلك المناطق، وأن كييف تركز جهودها على مدينة بوكروفسك في منطقة دونيتسك.

دعونا نتحدث بصراحة: على عكس الانطباع الذي خلقته وسائل الإعلام الغربية، إن الجبهة الحاسمة في الحرب في أوكرانيا ليست معركة كورسك، أو حتى جبهة خاركوف، بل هي معركة دونباس، حيث يتقدم الروس ببطء لكن بعناد، ويطردون الأوكرانيين من النقاط الرئيسية الواحدة تلو الأخرى.

قالت وزارة الدفاع الروسية إن القوات الروسية حققت العديد من الانتصارات على طول الجبهة، من منطقة خاركوف إلى لوغانسك ودونيتسك.

ومع ذلك، فإنه يبدو أن الهدف الروسي الرئيسي في الوقت الحالي هو نقطة بوكروفسك المحصنة، والتي تعد المركز اللوجستي الرئيسي لمنطقة دونباس، وأيضا آخر خط دفاع محصن قبل نهر دنيبر. إن سقوط بوكروفسك من شأنه أن يؤدي إلى انهيار خطوط الدفاع في شرق أوكرانيا.

لقد تفكك خط المواجهة تجاه بوكروفسك بسرعة خلال الأيام الماضية، ويوجد أخر خط أمامي على بعد 11 كيلومترا فقط من حدود مدينة بوكروفسك نفسها. ووفقا لوسائل الإعلام الأوكرانية، يقول رئيس الإدارة العسكرية في بوكروفسك، سيرغي دوبرياك، إن “العدو وصل تقريبا إلى حدود منطقتنا”.

وفي منشور على تيليغرام، قال رئيس الإدارة العسكرية للمدينة إنه من المهم أن “لا يؤخر” السكان إجلاءهم، حيث أن القوات الروسية تقترب “بسرعة من ضواحي بوكروفسك”.

مؤهلات زيلينسكي العسكرية

لو كان لدى زيلينسكي أدنى فهم للتكتيكات والاستراتيجية، لكان قد اعترف على الفور بأن مغامرة كورسك قد انتهت بالفشل، وأمر بانسحاب القوات الأوكرانية، من أجل الحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من تلك الموارد القيمة والقليلة. لكنه لا يُظهِر أي علامة على الإطلاق على أنه سيقوم بذلك.

وهذه ميزة تنسجم تماما مع طبيعة الرئيس الأوكراني، الذي هو، كما يجب أن نتذكر، شخص ليست لديه أي خبرة عسكرية أو فهم لفن الحرب. يبدو أنه يعرف أمرا واحدا فقط وهو: الهجوم! بينما لا يتسع معجم مفرداته المحدود للغاية لكلمات “التراجع” أو “الانسحاب”.

لقد أصبحت هذه الحقيقة واضحة عند كل منعطف حاسم في الصراع الأوكراني. وكان لها عواقب وخيمة للغاية، مما تسبب في توالي الهزائم الكارثية، الواحدة تلو الأخرى. ومع ذلك فهو لا يتعلم.

بالأمس، أثناء تقريره عن اجتماع هيئة الأركان العامة الأوكرانية، تحدث زيلينسكي عن الوضع في دونباس، والذي أصبح الآن حرجا، حيث قال:

“في اجتماع هيئة الأركان اليوم، تلقيت تقريرا من القائد العام سيرسكي. حول اتجاهات دفاعنا الرئيسية في الخطوط الأمامية: توريتسك، بوكروفسك، وغيرها.

“تواجه هذه المناطق حاليا أشد الهجمات الروسية كثافة وتحظى بأقصى قدر من اهتمامنا الدفاعي.

“يتم إرسال الإمدادات ذات الأولوية -كل ما هو مطلوب- إلى هناك”.

لكنه لم يذكر حقيقة أن دفاعات تلك المناطق الحاسمة قد ضعفت بشكل خطير بسبب أوامره بسحب القوات منها لدعم هجومه في كورسك!

يبدو من غير المعقول تماما أن يستمر زيلينسكي في مثل هذه اللحظة الحرجة في خطته المجنونة لغزو روسيا! وبعد أن خصص بضع كلمات فقط للموقف اليائس لقواته في “توريتسك وبوكروفسك وغيرها” (أي على طول الخط المركزي للصراع)، عاد على الفور إلى هوسه الشخصي، الذي يلتهم القوات والمعدات الحيوية دون أي هدف منطقي على الإطلاق.

غزو روسيا لبوكروفسك سيكون أكثر أهمية بما لا يقاس لنتيجة الحرب من أي عدد من القرى الصغيرة التي تمكن الأوكرانيون من احتلالها مؤقتا في كورسك.

لا يوجد أي أمل على الإطلاق في أنه سيستمر في احتلالها لأي فترة من الزمن. وسوف تكون هزيمتهم -التي لا مفر منها- مصحوبة بمستوى مذهل من الخسائر.

وواصل زيلينسكي في تقريره قائلا:

“قدم القائد العام [سيرسكي] بشكل منفصل تقريرا عن العملية في منطقة كورسك. كان هناك تقدم جديد.

“بالإضافة إلى ذلك، أبلغ الجنرال سيرسكي عن التحرير الناجح لمدينة سودزا من القوات الروسية. “لقد تم إنشاء مكتب القيادة العسكرية الأوكرانية هناك.

“كما تم تحرير العديد من المستوطنات الأخرى. في المجموع، أكثر من ثمانين. وأود أن أعرب عن عميق امتناني لكل محاربينا الذين جعلوا هذا ممكنا”.

وباختصار فإن زيلينسكي يتحدث وكأنه رجل يعيش في حلم، منفصل تماما عن الواقع.

هل أُخذت روسيا على حين غرة؟

إذا كان صحيحا أن روسيا فوجئت بالهجوم الأوكراني في كورسك، فإن هذا يمثل بلا شك فشلا كارثيا للمخابرات الروسية. هذا هو التفسير الذي تم تداوله على نطاق واسع في وسائل الإعلام الغربية. لكن من الصعب تصديق هذا التفسير دون مزيد من الفحص النقدي.

من المعروف أن أجهزة الاستخبارات الروسية هي من بين أكثر الأجهزة كفاءة في العالم. لديهم تحت تصرفهم جهاز مراقبة واسع النطاق، ورثوه من المخابرات السوفياتية، KGB، والاتحاد السوفياتي. وتم تطوير ذلك الجهاز وتحديثه لمواكبة جميع التطورات على جبهة الحرب.

ولا شك أن وجود أقمار التجسس والطائرات المسيرة، التي تحافظ على المراقبة المستمرة لكل التطورات على الخطوط الأمامية، يكمله بلا شك وجود الجواسيس والمخبرين الذين سينشطون على كل مستويات الأنشطة السياسية والعسكرية في كييف.

من غير المرجح أن تتفاجأ مثل هذه الأجهزة ولو بأصغر التحركات الأوكرانية. وما لدينا هنا ليس حركة صغيرة، بل تحركات واسعة النطاق للقوات والدبابات والمركبات المدرعة على منطقة حساسة للغاية من الجبهة.

ولكي لا يكتشف الروس هذه التحركات، فلابد أنهم كانوا عميانا وصُما وبكما. إلا أنه من الواضح أن هذا ليس هو الحال.

هناك عوامل أخرى يصعب تفسيرها. ففي المنطقة التي وقع فيها التوغل، كان الروس قد قاموا بتطهير حقول الألغام الخاصة بهم. وربما كان السبب وراء ذلك هو التحضير للتقدم الروسي عبر الحدود.

ومع ذلك، فقد شكل ذلك هدفا مغريا للغاية بالنسبة للأوكرانيين -مغريا للغاية بالنسبة لزيلينسكي لدرجة أنه لم يستطع مقاومته. كان الأمر وكأن الروس يستدرجونه إلى هجوم، مثل الذي يضع قطعة مغرية من الجبن في مصيدة الفئران.

هل من المعقول أن يكون الأوكرانيون قد وقعوا في فخ بالفعل؟ سوف ينكر مثل هذه الفرضية كل هؤلاء المعلقين الغربيين الذين يصرون على تقديم ما كان بوضوح مغامرة لا معنى لها على أنها عمل من أعمال التألق العسكري.

لكن ومع الاحترام الواجب لخبرائنا الغربيين، لا يمكن منطقيا استبعاد مثل هذه الفرضية. بل إنها، في الواقع، تبدو أكثر مصداقية من التفسير البديل، والذي بموجبه، لم تتمكن المخابرات الروسية، لأسباب غير مفسرة، من اكتشاف شيء من شأنه أن يكون واضحا حتى لطفل متوسط ​​الذكاء ويبلغ من العمر ست سنوات.

إذا استبعدنا إمكانية إعداد نوع من الفخ من قبل الروس، فإننا مضطرون إلى استخلاص استنتاج آخر، وهو أن زيلينسكي وقع في فخ من صنعه. وسوف يضطر الآن إلى التعايش مع عواقب خطئه.

هل كان الغرب متورطا؟

السؤال التالي الذي يجب طرحه هو: هل كان الغرب متورطا في هذه الخطوة، أو على علم بها مسبقا؟ تقول صحيفة التايمز ما يلي:

لقد فاجأت العملية حتى أقرب حلفاء كييف، بما في ذلك الولايات المتحدة، ووسعت حدود كيفية السماح باستخدام المعدات العسكرية الغربية داخل الأراضي الروسية”.

قال البيت الأبيض إن أوكرانيا لم تقدم له إشعارا مسبقا بتوغلها وأن واشنطن ليست متورطة. لكن هذه الادعاءات تقابل بالتشكيك من طرف موسكو.

فقد صرح أحد مساعدي الكرملين أن حلف شمال الأطلسي والغرب كانا متورطين بشكل مباشر في التخطيط للهجوم الأوكراني على منطقة كورسك الروسية وأن إنكار تورطهما هو مجرد أكاذيب.

وفعلا، لماذا يجب على الروس أن يصدقوا أي شيء يقوله الأميركيون، ما داموا يكذبون ويخدعون الرأي العام باستمرار منذ البداية؟

في الواقع، هناك سبب وجيه للاعتقاد بأن الأميركيين كانوا على علم بخطط زيلينسكي قبل وقوع الهجوم، لأنه يبدو أن الروس أنفسهم ربما أبلغوهم! وتبرز مكالمة هاتفية غريبة. ففي 12 يوليوز، اتخذ وزير الدفاع الروسي، أندريه بيلوسوف، خطوة الاتصال مباشرة برئيس البنتاغون، لويد أوستن.

وهذا في حد ذاته أمر غير عادي. فمنذ بدء الحرب، في فبراير 2022، لم يجر أوستن سوى خمس مكالمات هاتفية مع وزير الدفاع الروسي، وكلها تقريبا كانت بمبادرة من الولايات المتحدة لتجنب تصعيد الصراع.

لكن وفقا لثلاثة مصادر أمريكية رسمية في صحيفة نيويورك تايمز، كان بيلوسوف هو الذي اتصل بأوستن في هذه المناسبة لتحذيره من أن الروس كشفوا عن عملية سرية أوكرانية ضد روسيا.

لم يتم الكشف عن الطبيعة الدقيقة لتلك العملية. وما حدث بعد ذلك يظل غير واضح. يبدو أن مسؤولي البنتاغون فوجئوا بأخبار خطط الأوكرانيين. وعندما سأله بيلوسوف مباشرة عما إذا كان على علم بالعملية الأوكرانية المخطط لها، نفى أوستن أن يكون لديه أي علم بها، وقال علاوة على ذلك إنه سيحذر الأوكرانيين من تنفيذها.

وفي ضوء الأحداث اللاحقة، من الصعب عدم التوصل إلى استنتاج مفاده أن العملية السرية المشار إليها كانت على وجه التحديد الهجوم في كورسك، والذي كان زيلينسكي يخطط له بالفعل، مع أو بدون إذن واشنطن.

والسبب وراء اعتبار الروس لهذا تهديدا خطيرا هو ما يلي: الهدف الاستراتيجي العسكري الوحيد ذي القيمة في منطقة كورسك هو محطة كورسك للطاقة النووية على مشارف بلدة كورشاتوف، غرب العاصمة الإقليمية كورسك.

إذا تمكن الأوكرانيون من الاستيلاء على تلك المنشأة، فمن المؤكد أن ذلك سيعطيهم القوة لابتزاز روسيا بطريقة ما. كان هذا بلا شك الهدف الحقيقي للهجوم الأوكراني في كورسك، على الرغم من أن الأوكرانيين لم يوضحوا ذلك مطلقا.

لقد فشل الهجوم

فاجأت السرعة والسهولة التي تمكن بها الأوكرانيون من التقدم إلى الأراضي الروسية العديد من الناس، وخاصة الأوكرانيين أنفسهم. وهذا يتطلب مرة أخرى بعض التفسير.

ألم تكن لدى الروس قوات كافية لصد الغزاة ودفعهم إلى التراجع إلى ما وراء الحدود؟ من المؤكد أن لديهم احتياطيات كافية داخل روسيا لجعل سحب القوات من دونباس (والذي هو هدف آخر معلن للأوكرانيين) أمرا غير ضروري.

لكن القوات الوحيدة المعروفة التي كانت موجودة في المنطقة في ذلك الوقت كانت مجموعات صغيرة من القوات الخاصة (الكوماندو) والشيشان وأعضاء من فرقة فاغنر. انخرط هؤلاء في كمائن وهجمات خاطفة، والتي، إلى جانب الهجمات الجوية والطائرات المسيرة، ألحقت في الواقع خسائر فادحة للغاية بالأوكرانيين، وهي حقيقة قللت الصحافة الغربية من أهميتها تماما.

ومع ذلك تجنب الروس، حتى الآن، الدخول في معركة شاملة مع الغزاة، مفضلين تقليل الخسائر في جانبهم، مع تعظيم الخسائر الأوكرانية، والتي تكبدت خسائر فادحة مقابل نتائج لا تذكر.

لقد بنى الروس خطا محصنا بشدة، مما يمنع المزيد من التقدم الأوكراني، ويجبر الأوكرانيين على تشتيت قواتهم إلى وحدات صغيرة، مخصصة بشكل أساسي للتخريب.

ومع ذلك فإن الهدف الرئيسي -محطة الطاقة النووية- ما يزال بعيدا عن متناول أيديهم. لقد تم تحصينها بشدة من قبل الروس، وهذا يجعلها منيعة أمام هجوم القوات الغازية.

وهكذا يجد الأوكرانيون أنفسهم في فخ فعلي، محرومين من الوصول إلى هدفهم الأكثر أهمية، لا يسيطرون سوى على عدد من القرى الفارغة في الغالب (تم إخلاء أغلب السكان) وهم الآن محكوم عليهم بالقيام بأنشطة عشوائية إلى حد ما، في انتظار ضربة مضادة خطيرة من الجانب الروسي.

من المستحيل أن نقول كم من الوقت سيستغرق الروس ليجمعوا القوات الكافية لشن هجوم مضاد مدمر. لكن القوات تتدفق من جميع الجهات، وعندما سيقتنع القادة بأن الأوكرانيين قد ضعفوا بدرجة كافية بسبب القصف، سوف يتحركون لسحقهم.

عندها سوف ينكشف الأمر برمته أمام أعين العالم باعتباره مجرد مغامرة متهورة لا معنى لها، لن تؤدي سوى إلى إضعاف الدفاعات الأوكرانية، المتداعية أصلا، وتمهيد الطريق للانهيار النهائي.

كورسك: نقطة تحول في الحرب

قد يكون صحيحا أن مغامرة كورسك ستكون نقطة تحول في الحرب الأوكرانية، لكن ليس بالمعنى الذي يفهمه زيلينسكي ومعجبوه في الغرب. فعلى العكس من ذلك، إن الهجوم على كورسك سيتسبب في أضرار لا يمكن إصلاحها لدفاعات أوكرانيا في مواجهة هجوم روسي متجدد، والذي من الواضح أنه قيد الإعداد.

هناك شائعات -لا أستطيع التأكد من صحتها- مفادها أن أوليكساندر سيرسكي، القائد العسكري الأعلى في أوكرانيا، يحاول إبعاد نفسه عن قضية كورسك، محاولا إلقاء اللوم على أكتاف زيلينسكي.

إذا كان صحيحا أن الجنرال سيرسكي، الذي يُعتبر “رجلا مطيعا” للرئيس، يحاول النأي بنفسه عن مغامرته المتهورة وغير المسؤولة في كورسك، فهذه علامة على تطور التصدعات داخل صفوف الدوائر الحاكمة في كييف.

إن حجة زيلينسكي بأن هجوم كورسك كان يهدف إلى تمكين الأوكرانيين من موقف أقوى خلال المفاوضات المستقبلية مع روسيا، قد اتضحت الآن عن أنها حلم فارغ.

فعوضا عن أن تؤدي مغامرة كورسك إلى حدوث مفاوضات مع روسيا، فإنها أزالت أي إمكانية لإجراء المفاوضات. وقد أوضح بوتن هذا الأمر بشكل جلي. لقد أدى غزو الأراضي الروسية بلا شك إلى تقوية موقفه وتصلب الرأي العام الروسي ضد نظام كييف.

وأخيرا، بدأ بعض المعلقين الغربيين يستيقظون على حقيقة مفادها أن هذه المغامرة لن تنتهي بالهزيمة فحسب، بل ستؤدي أيضا إلى انهيار عسكري كامل وكارثي.

لقد كان الهجوم، بمعنى ما، نجاحا مذهلا. فقد قدم دفعة قوية للسيرك الإعلامي الصاخب، الذي يحرص دوما على استغلال أي نجاح أوكراني -سواء كان حقيقيا أو وهميا، وهو أمر لا يبالي به أحد- وتضخيمه إلى أقصى حد.

كانت التقارير الإعلامية تفيض بتغطية متدفقة عن الأوكرانيين الشجعان وهم يقاتلون ويلحقون هزائم مهينة بالعدو الشرير. لكن إذا تعمقنا قليلا وراء الضجيج الإعلامي، فلن يكون من الصعب اكتشاف وجود قدر من التردد بل وحتى الشك.

حتى أكثر مشجعي الهجوم حماسة يعترفون على مضض بأن الأمر كان “مغامرة محفوفة بالمخاطر”. وهذا ينطبق على صحيفة نيويورك تايمز نفسها. ففي تحليلها لهذه الأحداث في نفس المقال، تقول ما يلي:

“إن هذا الهجوم يشكل مقامرة كبرى بالنسبة لأوكرانيا. فإذا تمكنت قواتها من الاحتفاظ بالأراضي، سيمكنها استنزاف قدرة الجنود الروس، وإحراج بوتين والحصول على ورقة مساومة لأي مفاوضات سلام. لكن إذا تمكنت روسيا من الرد، فقد يتعرض القادة العسكريون الأوكرانيون للوم على منح الروس فرصة لكسب المزيد من الأرض”.

من الواضح أن زيلينسكي كان يأمل أن يتسبب هجومه في انتشار الإحباط والذعر على نطاق واسع بين السكان الروس. لكنه، في الواقع، كان له التأثير المعاكس. إن مشهد القوات الأوكرانية، المدججة بالأسلحة والدبابات التي يوفرها لها الغرب، سوف يقنعهم بأن العضوية الأوكرانية المحتملة في حلف الناتو تمثل بالفعل تهديدا مباشرا ومحدقا لروسيا.

وعوض أن يقوض هذا القرار موقف بوتين، فإنه سيعمل على حشد الدعم للحرب. وقد أدى بالفعل إلى زيادة أعداد المجندين في الجيش الروسي. هذا في الوقت الذي تجد فيه أوكرانيا نفسها مجبرة على استخدام القوة الغاشمة لجر المجندين الرافضين من الشوارع لإرسالهم إلى ما يعتبر على نحو متزايد مسلخا.

إن الشعب الأوكراني قد بدأ يستيقظ بسرعة على حقيقة مفادها أن هؤلاء الذين يسمون بأصدقائه ومحسنيه في الغرب هم حريصون على القتال حتى آخر قطرة من دم أبنائه.